نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
موجات النقل الحداثية الثلاث, اليوم الجمعة 25 أبريل 2025 01:54 صباحاً
نشر بوساطة عبد الرحمن بن عبد الله الشقير في الرياض يوم 24 - 04 - 2025
منذ مئة عام بدأ ظهور السيارات في السعودية، وظن بعض البسطاء من الناس أنها سحر؛ لأنها حديد يتحرك وينقل الركاب والبضائع بطريقة خارقة مقارنة بالإبل، وبعد مئة عام بدأ يظهر القطار بدون سائق والسيارة بدون سائق وتاكسي طائرة، مما يعيد ذات الصدمة الثقافية، لكن هذه المرة صدمة دهشة من سرعة التقدم العلمي، وفي كل موجة تغير نلحظ أن انتصار الحداثة يعود لتعدد مصادر المعرفة والطابع النفعي لمظاهرها، وما بين الصدمتين مرت السعودية بثلاث موجات أساسية للنقل العام والخاص، وتحمل كل موجة رحلة في التغير الاجتماعي.
في عام 1337ه/ 1917م أصدرت الأدميرالية البريطانية ومكتب الحرب «دليل الطرق في شبه الجزيرة العربية»، ويتضمن عرضًا تفصيليًا للطرق الرئيسية ووسائل المواصلات وخطوط الاتصال، وكانت الجزيرة العربية تعتمد في النقل غالبًا على الجمال والحمير والبغال. وهي بداية استخدام الطرق لأغراض عسكرية، ما تطلب تسريع تطوير الطرق وتقنيات وسائل النقل.
وقد مرت السعودية بثلاث موجات حداثية في وسائل النقل:
الموجة الأولى: النقل العام ومأسسة الحياة الحديثة
شكّلت بدايات النقل العام في خمسينات القرن العشرين مظهرًا مبكرًا من مظاهر الحداثة المؤسسية، حيث لعبت شركتا «أرامكو» في المنطقة الشرقية و»التابلاين» في المناطق التي أنشأتها أو مرّت بها، دورًا رائدًا في تدشين خدمات النقل العام المجاني، ثم دخل النقل العام المدن الكبرى كالرياض والدمام، وأصبح خدمة مجانية تقدمها الحكومة للطلاب وبعض الموظفين.
كان النقل في بداياته تمثيلاً واضحًا للنموذج الأمريكي الحديث في البنية التحتية، سواء من حيث نوعية الحافلات أو الثقافة التنظيمية المصاحبة لها، مما رسّخ في الوعي المحلي مفهوم «النقل المشترك» كحق اجتماعي يعزز من روح التعاون والانضباط الجماعي.
وقد ساعدت الطبيعة الجغرافية الواسعة للسعودية، المشابهة إلى حد كبير للنمط الأمريكي في اتساع المساحات وامتداد المدن، على احتضان هذا النموذج من وسائل النقل، بعكس البيئة الأوروبية المتراصة والمحدودة بالمساحة.
هذا التناسب بين الأرض والنموذج أدى إلى اعتماد الحافلات كوسيلة أساسية للطلاب والموظفين، خاصة في ظل غياب البنية التحتية الكافية، من طرق معبدة، إضافة إلى قرب المدارس من الأحياء وغياب الجامعات آنذاك.
في تلك المرحلة، لم يكن النقل الخاص متاحًا على نطاق واسع، وكان «قراش الملك سعود» في الرياض يضم موقفًا ضخمًا للسيارات الرسمية وورشة صيانة تابعة للديوان، مما يرمز إلى سيطرة الدولة على النقل وضبطه.
وبدأت تتضح أهمية السيارات منذ الستينات مع دخول سيارات قوية مثل «الجمس» و»الفورد»، والتي شكّلت صدمة ثقافية للبدو؛ فقد رأوا فيها تجسيدًا حديثًا للإبل من حيث القوة والتحمل، مما عمّق الإحساس بالتغير الجذري في أنماط الحياة.
ومع ذلك، لم تختفِ الوسائل التقليدية كليًا، إذ بقيت الإبل في نجد، و»القاري» (عربة يجرها حمار) في الأحساء، حاضرة على نحو رمزي، وتحوّلت من وسيلة عملية إلى جزء من الذاكرة الجمعية يتم إحياؤها في الفعاليات التراثية.
لقد أنتج هذا التحول البنيوي في وسائل النقل آثارًا اجتماعية عميقة؛ فقد أسهم في تفكيك المسافات وتغيير مفهوم الزمن، وشجّع على التنقل بين المناطق، مما فتح المجال لنشوء خدمات نقل جديدة، سواء للبضائع أو للأفراد، وولّد فرص عمل خارج الإطار التقليدي للقرابة أو الحرفة المحلية، وأسهم في تسريع عمليات التنمية والتطور الذي تقوده الدولة.
ومن أبرز ملامح هذا التغير نشوء ما كانت تسميه العامة «الاستيشن» كنقطة تجمع للنقل العام والخاص، وهي غالبًا ما كانت تُقام على أطراف المدن والقرى. وهذا الفضاء الناشئ كان ميدانًا اجتماعيًا جديدًا، يربط بين الغرباء، ويجمعهم على مصلحة موحدة، ويعكس إحدى أبرز خصائص الحداثة المتمثلة في خلق فضاءات اجتماعية قائمة على الحاجة والتعاون العملي.
الموجة الثانية: النقل الخاص وتكوين الذات الفردانية
تمثل الموجة الثانية من الحداثة، التي بدأت مع تصاعد استخدام السيارات الخاصة منذ السبعينات، لحظة فارقة في مفهوم الذات داخل المجتمع.
فبينما ارتبطت السيارة في بداياتها بوصفها ملكية جماعية تُعبر عن وحدة الأسرة وتكاملها، سرعان ما تحولت إلى أداة للفرد تجسد استقلاليته وتمايزه داخل نسيج اجتماعي كان يتسم تقليديًا بالتشابك القبلي والجماعي. وأسهمت السيارة في إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والمكان، وبين الذات والآخر.
بدأ التغير الاجتماعي يتضح لحظة الانتقال من «سيارة العائلة» إلى «سيارة الفرد»؛ حيث بدأ معها مفهوم الفردانية الحديثة، واعتبار الفرد كفاعل مستقل يمتلك وقته وقراراته، ويتحكم في حركته ويمارس وجوده الرمزي من خلال فضاء خاص به.
وقد ساعدت تحولات السوق - بدخول السيارات الكورية والصينية زهيدة الثمن، وانخفاض أسعار المستعمل - على ديمقراطية الامتلاك، فباتت السيارة متاحة حتى للفئات الشابة والمراهقين، الذين شكلوا بدورهم مشهدًا مروريًا جديدًا تحكمه قواعد غير رسمية تُنتجها ثقافة الشارع.
وتكمن مفارقة الحداثة في الوقت الذي تسعى فيه الدولة إلى الضبط والتقنين، تبرز فئات اجتماعية جديدة تعيد تشكيل الفضاء العام وفق هوياتها المتحركة وقيمها الناشئة.
وأخذ هذا التحول بُعدًا نوعيًا آخر مع دخول المرأة إلى ساحة القيادة، وانكسرت معها الرمزية القديمة للسيارة كأداة سلطة ذكورية، تتيح إعادة تشكيل العلاقة مع الحيز العام، وتقليص الفجوات بين الجنسين في ممارسة الفضاء الحضري.
اكتسبت السيارة، مع صعود الرفاهية المفرطة، دلالة رمزية جديدة بوصفها علامة طبقية اجتماعية، فتضاعف حضور السيارات الفارهة واللوحات المميزة، باعتبارها استعراضاً لرأس المال الرمزي والمكانة الاجتماعية، وأصبحت فضاءً للتعبير عن الذات، لا تقل في رمزيتها عن اللباس أو السكن أو اللغة.
الموجة الثالثة: المترو وتجسيد الحداثة البيئية
يمثّل انطلاق مشروع المترو في نوفمبر 2024 بمدينة الرياض لحظة حداثية جديدة أعادت تشكيل العلاقة بين الإنسان والمدينة، ويعيد للفضاء العام وظيفته الجماعية بعد عقود من هيمنة التنقل الفردي الذي فرضته سيطرة السيارة الخاصة.
غير أن هذه العودة تعتبر قفزة إلى الأمام، تتجاوز النموذج التقليدي للنقل الجماعي نحو نموذج معولم، تقني، مستدام، تحكمه أدوات الحوكمة الرقمية والتنظيم الذكي للفضاء العام.
ففي ظل التوسع العمراني والتعقيد الحضري، بات المترو يمثل أداة تنظيمية من خلال خلق محاور جديدة للتركيز السكاني والوظيفي حول محطاته، ما يدعم تخفيف الضغط على البنية التحتية، ويقلل من الحاجة إلى التنقل البعيد والمكلف.
كما أن قرار منح التراخيص لبناء أبراج سكنية وتجارية حول هذه المحطات، يعتبر محاولة جريئة وفكرة خلّاقة لإعادة إنتاج المدينة ككائن متكامل، حيث تلتقي الوظيفة والسكن والخدمة في نقطة تجمع واحدة.
تعيد تجربة المترو إحياء «اللقاءات العابرة» باعتباره من أشكال الاجتماع الإنساني، بعد أن همّشت الفردانية الحديثة هذا البعد لصالح الخصوصية. وبينما كان اللقاء في الشارع أو المقهى أو السوق هو المحفز على التفاعل الاجتماعي، يعيد المترو تمثيل هذه المساحات في فضاء مغلق لكنه حيّ، حيث تبدأ دردشة بسيطة، وتنتهي عند نزول أحد الطرفين في محطته، في إشارة رمزية إلى أن المدينة أصبحت شبكة من العلاقات العابرة والفاعلة.
كما يحمل المترو بُعدًا بيئيًا واضحًا، إذ يُقدَّم كمبادرة واعية نحو «المدينة الخضراء»، ومساهمة مباشرة في تقليل التلوث والانبعاثات، وإعادة التفكير في العلاقة بين الإنسان والبيئة.
الموجة الرابعة: الذكاء الاصطناعي والتنقل الذاتي
تُبشّر الموجة الرابعة من الحداثة التقنية المستقبلية بتحول جذري في بنية التنقل الحضري، تتجاوز فيه الوسائل حدود المادة إلى بنية الذكاء الاصطناعي، حيث تُعاد صياغة العلاقة بين الإنسان والمركبة عبر مفهوم الخدمة لا الملكية، ويهدد بإلغاء النموذج الكلاسيكي القائم على «امتلاك سيارة خاصة»، لصالح نموذج مرن يعتمد على «الاستخدام حسب الطلب». وتُصبح المركبات ذاتية القيادة - مثل «روبوتاكسي» من تسلا، و»كروز» من جنرال موتورز، و»إيمو» من «ألفابت» – لاعبين رئيسيين في فضاء تنافسي معولم.
وتُعزز هذه الموجة من فاعليتها استجابة للنمط الاقتصادي الجديد، لا سيما لدى الطبقات الوسطى التي باتت تعاني من عبء التكاليف المرتبطة بامتلاك السيارة مثل التأمين والصيانة والوقود والرسوم المتنوعة.
أما على المستوى الحضري، فإن المدن الذكية تتجه نحو فرض اشتراطات تنظيمية وتشريعية تُشجع على استخدام وسائل النقل المستدامة والصديقة للبيئة، في محاولة لتقليل البصمة الكربونية، والحد من الازدحام، وتوسيع أفق العيش الجماعي في مدينة خضراء.
ختام
يمثّل التحول في أنماط النقل خلال القرن الأخير في السعودية أحد أكثر التحولات الحضارية كثافة ودلالة؛ إذ انتقل المجتمع، في مدى زمني وجيز تاريخيًا، من الإبل كرمز للنقل البدائي إلى المركبات الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بما يعكس تحوّلاً عميقًا في البنية المادية والثقافية على حد سواء.
فالموجة الأولى دشّنت مفهوم الحداثة الجماعية عبر النقل العام المؤسسي، والموجة الثانية أسّست لتحوّل اجتماعي متدرج من التماسك الأسري إلى الاستقلال الفردي، ثم استقلالية المرأة. بينما أعادت الموجة الثالثة التوازن بين الفرد والمدينة، من خلال تنظيم الحركة وتحقيق الاستدامة. وتُبشّر الموجة الرابعة، التي بدأت ملامحها في التشكّل، بثورة شاملة تعيد صياغة مفهوم الملكية والتنقل، في إطار اقتصاد تشاركي مدفوع بالتقنية.
لكن الأهم من هذا التتابع الزمني هو ما كشفت عنه وسائل النقل من تحولات في بنية الوعي الاجتماعي من الجماعة إلى الفرد، ومن الإيثار إلى النفعية، ومن العلاقات التقليدية إلى أنماط شبكية مرنة. لقد فرضت تقنيات النقل الحديثة إيقاعًا جديدًا للحياة، سرّعت من وتيرة التحوّل الاجتماعي، وأعادت رسم خريطة العلاقات، سواء في السوق أو العائلة أو الفضاء العام، مدفوعة بانفجار وسائل التواصل التي اختزلت المسافات، وأعادت تشكيل مفهوم الزمان والمكان في الوعي الجمعي.
قوافل الإبل والسيارات من وسائل النقل قديماً خلال موسم الحج
جانب من المواصلات قديماً في أحد المواقف بمدينة الرياض
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
أخبار متعلقة :