نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
نحن نكره المستقبل, اليوم الجمعة 21 مارس 2025 12:44 صباحاً
نشر بوساطة يوسف إدريس في الوطن يوم 20 - 03 - 2025
للإنسان أحيانًا خصائص نادرًا ما يتبينها أو يعي بها، وإن وعى بها فهو أيضًا نادرًا ما يرفعها إلى مرحلة التنظير. وقد اكتشفت حديثا بعض خواص جديدة عن نفسي، منها مثلا تلك (القيمة) الموسيقية التي كثيرًا ما تتملكني وبلا سبب ظاهر. قد تكون أغنية قديمة من أغاني جدتي سمعتها وأنا طفل، وقد تكون نغمًا حديثًا لأم كلثوم أو عبدالوهاب أو رياض السنباطي - قد تكون الافتتاحية الشهيرة للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن أو لحن فرانك سيناترا (غرباء في الليل). وتظل النغمة تستبد بي ويلوكها عقلي جيئة وذهابًا حتى تختفى
لسبب - أيضًا - ما زلت أجهله.
ثم خاصية أخرى اكتشفتها اليوم عند عقلي أيضًا. تلك هي خاصية الفكرة الواحدة التي أستيقظ لأجدها واقفة في الباب الفاصل بين الوعي واللا وعي.
أحيانًا تغيب خلف الباب وأحيانًا تظهر ولكني دائمًا أحس بها كامنة أو ظاهرة، فظلت معي اليوم بطوله.
وها نحن ذا، وقد بلغنا منتصف الليل وتجاوزناه لا نزال كالعذراء الخجلة، تطل لي بحضورها القريب الخافت.
الفكرة التي تلح علي اليوم هي فكرة علاقتنا نحن العرب بالمستقبل إنها لعلاقة وأيم الحق -ألا يقولون كذلك- تكاد تكون كوميدية تمامًا؛ ذلك لأنها تكاد تكون غير موجودة. نعيش في الماضي؟ نعم، نحافظ عليه.
نحيطه بكل آيات التقدير والتبجيل، هذا صحيح. الماضي عندنا يكاد يكون شيئًا مقدسًا تمامًا حتى لا يقبل في نظرنا إعادة تقييم أو تقدير أو إلقاء ضوء جديد.
الماضي مثل عظام الأجداد والآباء شيء مقدس تمامًا (تابوه) كتقديس قبائل إفريقيا القدامى للآباء الذين نشأت لديهم فكرة الوثن وعبادة «الإله» وكأن الماضي هو عقيدتنا. ولم أقل كان، الماضي فعلا هو عقيدتنا بل إننا ننظر شذرًا إلى ما نفعله اليوم ولم يفعله آباؤنا وأجدادنا وكأنه معصية أو فحشاء نرتكبها باعتبار أن لا سبيل إلى الحياة السوية إلا أن تدور حياتنا بالضبط مثلما كانت تدور في الماضي، وفق نفس الأسس. اللغة نريدها فصحى خالصة كما نطقها وكتبها الأجداد، الرداء لا بد أن يكون نفس الرداء، العادات والتقاليد في المآتم والأفراح والزواج واختيار الزوجة والطاعة والحكمة من الحياة نفسها، لا بد أن تكون على نسق الحياة من مائة عام مضت، وربما من ألف عام. نعم نحن نعيش في الماضي.
وإذا فكرنا في التحرر منه وهذا هو بالضبط ما نفعل أو بالأصح ما أرغمتنا الحياة على فعله فإن التطورات الاقتصادية الهائلة التي جرت لحياتنا وأرغمتنا أن نجذب أنظارنا من الماضي لننظر في الحاضر ونقلب في عقولنا كيف نعيش هذه التطورات، أرغمتنا أن يكون لنا حاضر وأن نعيش ذلك الحاضر، قسمتنا الحياة إلى أغنياء وإلى فقراء، الغني يريد أن يعيش غناه والفقير يريد أن يحفظ على نفسه ماء الحياة فامتصنا الحاضر تمامًا، أو بالأصح امتص منا كل ذرة تفكير لا ترنو إلى الماضي ولا تحيا فيه.
وهكذا لم يبق شيء للمستقبل.
أبدًا لم يبق شيء للمستقبل.
ولا أقول هذا على وضعنا كأمة كبرى متعددة الشعوب والخصائل والجغرافيا والتاريخ والأوضاع، وإنما على مستوانا حتى كأفراد وعائلات، دلوني على عربي واحد يعرف ما سوف يفعله بالضبط بعد عشر سنوات من الآن، دلوني على دولة عربية واحدة تعرف بالضبط مستوى دخل الفرد بعد ثلاث سنوات من الآن.
1978*
* كاتب وروائي مصري «1927 - 1991»
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
أخبار متعلقة :