نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من آيسف إلى العالم: أنا سعودي، إذًا أنا موجود بفكر لا يُستنسخ, اليوم السبت 24 مايو 2025 04:02 مساءً
نشر بوساطة عبد الإله عبد الله الطويان في الوطن يوم 24 - 05 - 2025
في زمنٍ تُروَّج فيه أطروحة متهافتة مفادها أن «الآخر يُفكّر ونحن لا»، تبدو الأفقيةُ الفكريةُ مغطاةً بغيوم الشك، لكن حين تتفتح مداركنا على حقائق حيّة، نكتشف كيف تنقشع الأوهام. فقد أطلَّ العقل السعودي مُعلِنًا نفسه مرة أخرى في أبهى صور الإبداع، حين عاد فريقٌ من الموهوبين السعوديين يمثلون العلوم والهندسة في (آيسف) «2025 في الولايات المتحدة، بحصيلة تراكمية تزيد على عشرين جائزة علمية عالمية.
هذا النجاح القيّم، الذي جعل المملكة تتبوأ المركز الثاني عالميًا بعد أمريكا في عدد الجوائز الكبرى، ليس حدثًا عابرًا؛ بل هو أبلغُ ردٍّ على كذبة «الجاهزية الفكرية» المُلوّثة بالعنصرية الثقافية. لقد تبدّدت آثار الظلمة حين خاض شبابٌ سعوديون حاملين هممًا علمية وابتكاراتٍ نوعية – غمار منافسات عالمية شارك فيها أكثر من ألفي متسابق من سبعين دولة. إن تحقيق 23 جائزة كبرى خاصة (14 كبرى و9 خاصة) في مسابقة آيسف 2025، يقدم شهادة واضحة: أن الابتكار والبحث العلمي لا غنى لهما عن الإبداع الكامن لدى الناشئة العربية، حين يتم توفير العوامل الحقيقية لتمكينه.
يأتي هذا الإنجاز بمثابة برهانٍ ماديّ على دحض الخرافات الفكرية. فشعارات من قبيل «الآخرون وحدهم يُفكّرون ونحن تابعون» تتهاوى أمام أرقام ملموسة. فقد أكدت مؤسسة «موهبة» أن المملكة حصدت 23 جائزة عالمية في آيسف 2025، منها ثلاث جوائز ترتيبية في المراتب الأولى والثانية والثالثة، ليجسّد بذلك العقل السعودي مهاراتٍ وفّرها دعمٌ علمي ومؤسسي متكامل.
ولئن قد يسارع البعض إلى التقليل من هذا الإنجاز باعتباره «من نصيب تلاميذ النخبة فقط»، فإن التاريخ الحديث يبيّن أن ريادة الباحثين تتكاثر حين تتوفر البيئة الخصبة. والحقائق تُشير إلى أن السعودية تحتل المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة في عدد الجوائز الكبرى، وهو مركز لم يكن ليتأتّى دون تغيير حقيقي في السياسات والاستثمار في العقول.
التساؤل عن سبب هذا الإبداع، إذا كان «العقل العربي لا يفكر»، يقع على عاتقنا، ويجب أن نجيب عليه: العقلُ السعودي أبدى فكرَه عندما وُفّرت له الفرصة. في نهاية المطاف، هل يُمكن لأي ثقافة أن تزدهر دون إعطاء «الآخر» حرية التفكير؟ بالعكس، ربما كان ذهابُ العقل السعودي خلف ستار الجمود نتيجة غياب الإيمان بقدراته، لا نقصًا في ذاته. اليوم، تُناقض الإنجازات الواقعية تلك الأسطورة الجاهزة: قدرات أبناء الوطن قائمة، والبيئة المشجعة تصنع الفارق.
ولا يمكن فهم هذا التقدم بمعزلٍ عن السياسات التي منحت الشباب منصّةً ودعمًا هائلًا. فنجاح فريق العلوم المتقدّم في آيسف لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج مؤسساتٍ ترعى المواهب على مستوى عالمي. فقد شكّل برنامج «موهبة» وشركاؤه بيئةً خصبة للمبدعين الصغار والكبار. ومن خلال مشاركة سنوية منذ عام 2007، صارت السعودية صاحبة سجل حافل، إذ ارتفع رصيدها في آيسف إلى 183 جائزة إجمالًا (124 جائزة كبرى و59 جائزة خاصة).
ويُبرز الأمين العام لمؤسسة موهبة، الدكتور خالد الشريف، أن هذا الإنجاز هو «تتويج لتكامل جهود موهبة ووزارة التعليم وشركائهما، ويعكس ما تتمتع به أدمغة الوطن من كفاءات واعدة تسهم في بناء مستقبل مزدهر في مجالات العلوم والابتكار». بمعنى آخر، إن الاستثمار الحكومي في برامج الموهوبين والابتكار – من خلال الهيئات التعليمية والتقنية والاقتصادية يصنع جيلًا واعيًا يُنير آفاق المعرفة.
هذا الدعمُ الحكومي يتجسّد أيضًا في الرؤية الاستراتيجية 2030، التي وضعت التعليم والبحث ركائز أساسية. فقد خصّصت المملكة 2.5% من الناتج المحلي للبحث والتطوير بحلول عام 2040، وأنشأت هيئات ووزارات متخصصة في البيانات والذكاء الاصطناعي وتعزيز الاقتصاد المعرفي، ليسدّ ذلك الجسر بين التعليم والابتكار، ويجعل من الشباب السعودي رأس حربة في مجال العلوم المستقبلية.
تجلّت هذه الرؤية كذلك في تأسيس جامعات بحثية مرموقة، كجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومراكز تكنولوجية متطوّرة، بالإضافة إلى شراكات دولية في مجالات علوم المستقبل ك الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة النظيفة. كل هذا جعل الطالب السعودي «يخوض ساحة الابتكار مُسلّحًا بثقة وطنية وإمكانات مادية»، فيتحوّل شغفه بالعلوم إلى نتائج ملموسة على المنصة العالمية.
ما يعلو فوق الكلمات هو قوةُ البيئة المُنشِّئة للفكر. فأبحاث علم النفس التربوي تُشير إلى أن تنشئة الإبداع تعتمد على توفير بيئة تعليمية غنية بالتشجيع والموارد. فالشغف ينبت من أرضٍ خصبةٍ للفضول، ونظرة الثقة بالقدرة تُحفّز الدماغ على اكتشاف حلول جديدة. وعندما يُعطى الطفلُ السعودي الثقة والقدرة على التجربة والخطأ عبر مختبرات حديثة ومسابقات تشجع البحث – تتفتّح مواهبه وتُترجَم على أرض الواقع.
ولا يخفى الأثر المعرفي والجمعي لهذه الإنجازات؛ فحصول الطلاب السعوديين على جوائز عالمية في مجالات متنوّعة (مثل الكيمياء، والهندسة البيئية، والأنظمة المدمجة، والطاقة، والطب الحيوي) يُظهر عمقًا فكريًا واسعًا يتغذى على علوم حديثة ودراسات متطوّرة. إنه تجسيدٌ لمفاهيم مثل «القدرة الذاتية» و«عقلية النمو» التي تحدث عنها علماء النفس؛ فالإيمان بقدرة الفرد على التعلّم والتطور، مع الدعم الخارجي، يُفضي إلى نتائج تتجاوز التوقعات. لقد أصبح الطالب السعودي غير قانعٍ بأن يُقلّد؛ بل صار صانعًا، يعيد تشكيل الصورة النمطية ذاتها.
في هذا الإطار، يتوافق ما تحقق مع رؤية فلاسفة التعليم والمعرفة: أن كل أمة تُشرّع لعلمائها فضاء التجريب والتفكير الحرّ، تسبق غيرها في عولمة العلوم – تمامًا كما فعل أبناؤنا في آيسف هذا العام.
وليس التحدي المحلي وحده ما يصنع هذه الانطلاقة؛ بل إن العالم كله يمر بتحوّل تكنولوجي عميق. إننا في الثورة الصناعية الخامسة، حيث تُعاد صياغة المفاهيم: التقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي صارا ناظمَيْن أساسيّيْن للتغيير. فقد أصبح التحوّل الرقمي والربط الذكي للبيانات يُغيّر من شكل الاقتصاد والمجتمع، كما أن الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والواقع الافتراضي غاصت في شرايين حياتنا اليومية.
في هذا السياق، لا يعنينا إن كان «الآخر» قد فكّر أولًا بل إننا جزء من المخيال العالمي الجديد. إنجازاتنا في آيسف تأتي تزامنًا مع هذه الصورة: فنحن لا نختلق عوالم جديدة فحسب، بل نستثمر في أخطر الأدوات الحديثة. مشاريع طلابنا تتجه نحو مجالات مثل الهندسة البيئية، والمواد المتقدمة، والأنظمة المدمجة، والطاقة النظيفة، والطب الجزيئي؛ وهي مجالات تقنيّة معرفية تقودها اليوم الثورة الخامسة للذكاء الصناعي.
ولهذا لا غرابة أن يعلن الخبراء عن توسع البرامج التعليمية السعودية لتشمل تعليم «الذكاء الاصطناعي ومهارات المستقبل» منذ المراحل الابتدائية. فالعقل السعودي، مُسلّحًا بهذه التقنيات، يثبت أنه يقف على خندق التغيير كما يقف على ساحة الإبداع. وفيما تتسارع ثورات التكنولوجيا الكبرى، تأتي مشاركتنا في آيسف كبصمة واضحة: نحن اللاعبون النشيطون في عصر المعرفة، ولسنا المتفرجين.
ومع هذا الفرح الوطني، يجب أن نبقى واعين؛ فالبصمة العلمية على منصّة دولية لا تعني أننا بلغنا الغاية النهائية. بالعكس، هذه الإنجازات المشرقة تُرينا الطريق نحو مزيدٍ من العطاء والتحسين.
فالمملكة، وإن حققت هذا الازدهار، تحتاج دومًا إلى تطوير المنظومة التعليمية؛ إذ إن وصول واحدٍ من كلّ مئة موهوب إلى العالمية لا يعني استفادة الجميع، ولا يغطي طموحاتنا. وهنا تبرز أهمية النقد الذاتي. فلا بد أن نعترف بأن مسار الإصلاح لا يزال طموحًا مفتوحًا: من تطوير المناهج لجعل التفكير النقدي أداة يومية، إلى تعليم كيفية إنشاء التجارب العلمية، وضمان فرص البحث لكلّ تلميذٍ فضولي.
إننا إذ نرفع رؤوسنا بفخرٍ لهذا الانتصار، ندرك أنه لن يكون زيارةً عابرة على أطلال الماضي. بل هو فصلٌ في ملحمةٍ حضارية بدأت منذ قرون، مع خلفاء وأئمةٍ ربطوا بين العقل والإيمان. واليوم، بينما تعيش البشرية تقاطعًا بين العلم والإنسانية في الثورة الصناعية الخامسة، يثبت العقل السعودي، بما لديه من شغف وريادة، أنه شريكٌ فاعل في بناء المستقبل.
فلتظلّ هذه الجوائز ثمارًا لجهودٍ مشتركة تتجدد كل يوم، ولتبقَ رؤانا تتسع لحلمٍ أرحب، يُقرّ بأن العقل إذا أُتيحت له الفرصة، فإنه ينبوعٌ لا ينضب من الإبداع والمعرفة.
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
0 تعليق