نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عصر الترند والتفاهة: سقراط يبحث عن مشاهدات!, اليوم الأحد 4 مايو 2025 02:45 صباحاً
نشر بوساطة سعيد رجاء الأحمري في الرياض يوم 03 - 05 - 2025
تصوّر أن سقراط، الفيلسوف العظيم، عاد للحياة في هذا العصر الرقمي الصاخب، وقرر أن يستأنف عمله في التفكير النقدي، لكنه اكتشف أن الناس لم يعودوا يجتمعون في الساحات للنقاش، بل يلتفون حول هواتفهم المحمولة، يستهلكون المقاطع القصيرة، ويلاحقون "الترندات" بلا وعي. قرر سقراط أن يواكب العصر فأنشأ قناة على "يوتيوب"، وأعدّ أول فيديو له بسؤال فلسفي عميق: "ما هي الفضيلة؟"، لكنه صُدم بأن المشاهدات لا تتجاوز العشرات. ثم قرر أن يجرب شيئًا مختلفًا، فأطلق فيديو بعنوان: "سقراط يجرب أكل 100 حبة زيتون في دقيقة!"، لتنهال عليه المشاهدات، ويحصد ملايين الإعجابات، ويصبح حديث مواقع التواصل، ويتلقى عروضًا من شركات الزيتون والمخللات. هذه هي المعادلة الجديدة في عالمنا، حيث لم تعد الشهرة مرتبطة بالموهبة أو الإنجاز، بل بمدى القدرة على لفت الانتباه ولو لثوانٍ معدودة. يمكنك أن تصبح نجمًا عالميًا لأنك ابتلعت بيضة نيئة، أو قفزت في بركة طين مرتديًا بدلة رسمية، أو تظاهرت بالموت في الشارع لترى رد فعل المارة. لا يهم المحتوى، المهم أن تُثير ضجة، لأن الضجة باتت عملة هذا العصر. في زمن مضى، كان النجاح يتطلب جهدًا حقيقيًا، مثل البحث، الاختراع، أو حتى إنتاج أعمال أدبية خالدة. أما اليوم، فكل ما تحتاجه هو هاتف متصل بالإنترنت، وشيء غريب تفعله أمام الكاميرا. يمكنك أن تصبح مليونيرًا لأنك قررت أن تغيّر تسريحة شعرك كل يوم، أو لأنك تصرخ بطريقة هستيرية عند مشاهدة فيديوهات عشوائية، أو لأنك تقدم نصائح في الاقتصاد بينما حسابك البنكي يترنح تحت خط الصفر!
أما إذا كنت كاتبًا، أو مفكرًا، أو عالمًا، فأنت في مأزق حقيقي. ستجد نفسك تقاتل من أجل أن يحصد مقالك العلمي 500 قراءة، بينما يجمع فيديو "رجل يرقص مع قطة" 10 ملايين مشاهدة في ساعة واحدة. لا تلم أصحاب هذه المقاطع، بل لُم الجمهور الذي منحهم الشهرة. نحن في زمن يقضي فيه الناس ساعات في متابعة شخص يشرح "كيفية شرب الماء بطريقة إبداعية"، بينما يتم تجاهل الكتب، والمحتوى التعليمي، وأي شيء قد يرفع مستوى الوعي. حتى وسائل الإعلام لم تسلم من هذه الموجة الجارفة. لم تعد الأخبار تُختار بناءً على أهميتها أو قيمتها الحقيقية، بل وفقًا لقدرتها على جذب النقرات. أصبح من الشائع أن تجد العناوين الصادمة، والأخبار غير المهمة، وتغريدات المشاهير تتصدر الصحف، بينما يتم تهميش القضايا الجادة لأن "الناس لا تحب الأشياء المملة". لم يعد التميز في العمل معيار النجاح، بل القدرة على إثارة الجدل، أو على الأقل، القدرة على خلق مادة ساخرة يمكن أن تتحول إلى "ميم" في وسائل التواصل.
تخيل لو كان أرسطو حيًا اليوم، وأراد أن ينشر كتابه "الأخلاق النيقوماخية"، لوجد نفسه غارقًا في تعليقات مثل: "أرسطو، الفيديو طويل جدًا، اعمل لنا ملخصًا في دقيقة!"، أو "يا شيخ، جرب ترند التيك توك بدلاً من الفلسفة!"، أو "أرسطو، نريد تحدي أكل 100 ليمونة، لا تفلسف علينا!". هكذا تحول الزمن. لقد اندثرت الفلسفة العميقة، وحلّ محلها فن "الاستعراض"، وأصبح المؤثر الحقيقي هو من يجيد إضحاك الناس بلا سبب، لا من يستطيع أن يجعلهم يفكرون بعمق. هذا التحول لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو نتيجة ثقافة استهلاكية كرّست مفهوم النجاح السريع. لم يعد أحد يسأل: "ماذا قدّمت؟"، بل "كم لديك من المتابعين؟". أصبح المهم هو أن تتصدر "الترند"، سواء كان ذلك عن طريق نشر محتوى قيم أو مجرد إثارة فضيحة. هناك من يختلق المشكلات، وهناك من يستغل القضايا الحساسة، وهناك من يلعب دور الحكيم المزيف، والنتيجة واحدة: شهرة بلا قيمة، ومحتوى بلا فائدة.
لكن كيف نواجه هذه الظاهرة؟ وكيف نحمي أبناءنا من السقوط في فخ التفاهة؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من إدراك مسؤوليتنا كمجتمع. إذا أردنا تغيير هذا الواقع، فعلينا أن نعيد النظر في معايير النجاح والتأثير. يجب أن نتوقف عن منح الاهتمام المجاني لمن لا يستحقونه. الشهرة في عصرنا ليست بالضرورة دليلًا على الموهبة، بل قد تكون مجرد مؤشر على القدرة على لفت الأنظار بأي وسيلة. أما حماية الأجيال القادمة من هذا الطوفان، فهي معركة طويلة تحتاج إلى وعي حقيقي. أطفال اليوم يكبرون في عالم مفتوح، حيث يستطيع أي شخص أن يؤثر عليهم بضغطة زر. الحل ليس في المنع المطلق، بل في التربية الواعية. علينا أن نعلم أبناءنا كيف يميزون بين المحتوى القيّم والمحتوى الفارغ، وكيف يحللون ما يشاهدونه بعقول ناقدة، بدلًا من أن يكونوا مجرد مستهلكين سلبيين. يجب أن نعيد بناء مفهوم الثقافة لديهم، بحيث لا يكون محصورًا في معرفة أسماء المشاهير ومتابعة آخر صيحات التحديات، بل يشمل العلم، والفكر، والفنون.
لا يمكننا إلقاء اللوم على التكنولوجيا، فهي مجرد أداة. المشكلة تكمن في كيفية استخدامها. يمكننا أن نجعل الإنترنت منصة للمعرفة والتطور، أو يمكننا أن نتركه ساحة للفوضى والتفاهة. الخيار بأيدينا.
في النهاية، سقراط كان يقول: "تكلم حتى أراك"، ولو كان بيننا اليوم، لقال: "اشتهر حتى أسمعك". فهل سنسمح لهذا الجنون بالاستمرار؟ أم أننا سنقرر أن نعيد الاعتبار للذكاء، قبل أن يُصبح رسميًا في حالة "إنعاش دائم؟!
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
0 تعليق