نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي: هوسرل.. التجربة الواعية والمعنى والحياة, اليوم الجمعة 25 أبريل 2025 01:54 صباحاًهوسرل.. التجربة الواعية والمعنى والحياة نشر بوساطة عبد الرؤوف الخوفي في الرياض يوم 24 - 04 - 2025 كلّ إدراك حسي يحمل معه أُفقًا من الإمكانات غير المرئية، فعندما تنظر إلى مبنى أمامك فإنّك لا ترى واجهته فقط، بل تتنبّأ بوجود جوانب خلفية له حتى لو لم ترها، ربما كان هذا اختزال مبالغ فيه لبناء تصوّرات أوّليّة عن فلسفة الألماني إدموند هوسرل الظاهراتية (الفينومينولوجيا). غير أنّ هوسرل يبدأ رحلته بسؤال بسيط مُربك: ماذا يعني أن تكون واعيًا؟ عندما نتأمل في أفكار هوسرل نجد أن فلسفته تُشبه رحلة موغلة في التجربة الإنسانية. فقد كان يسعى لفهمها كما تظهر لنا في وعينا دون اللجوء إلى التأويلات أو الافتراضات المسبقة -في مفارقة فلسفية مع راسل وفريجه وستراوسن- إذ تظلّ التجربة هي جوهر الفينومينولوجيا؛ فهي ليست حدثًا عابرًا في حياتنا، بل حوارٌ أصيلٌ بين الذات والعالم، حوارٌ لا يَبحث عن الحقيقة المطلقة، بل عن المعنى المُتجلّي في الوعي؛ ولذا فالفكر لدى هوسرل عمدي يتّجه بطبعه نحو الأشياء أو حولها.لم يكن هوسرل ليتحدّث عن أشياء مادّية فحسب، بل تحدّث عن الوعي الإنساني بوصفه فضاءً لاكتشاف العالم؛ حيث يرى فيه مُختبرًا وجوديًا تُصنع فيه كل المعاني. ولكن كيف تُترجم مفاهيمه المجرّدة، مثل القصدية (Intentionality) والأبوخية (Epoché) وعالم الحياة (Lebenswelt) إلى فهمٍ أعمق للواقع الذي نعيشه؟لقد أولى هوسرل اهتمامًا بالغًا لفهم الوعي بصفته الأداة الضروريّة لإدراك العالم واختباره. فهو لا يرى في الوعي مُجرّد حالة عقلية، بل عملية ديناميكية دؤوبة تتشكّل بتجاربنا اليومية. وكلّ لحظة واعية تشي بلقاء فريد مع هذا العالم، وتنمّ عن لحظة مُشبّعة بالمعنى.فقصديته ترى في الوعي بوصلة تبحث عن معنى، وكلّ فكرة أو ذكرى أو شعور ما هي إلا وعي بشيء ما. فعندما ننظر إلى غروب الشمس، لا نرى ألوانًا فحسب، بل نختبر جمالاً يُلامس أرواحنا. وهنا يتحوّل الغروب من ظاهرة فيزيائية إلى تجربة إنسانية؛ ذاك أنّ الوعي يُضفي المعنى على ما ندركه. وهكذا تُصبح الحياة سلسلة من اللقاءات القصدية التي تُذكّرنا بأننا لسنا متفرجين سلبيين في هذا العالم، بل شركاء في خلق معناه، فحتى أبسط الأشياء تكتسب قيمتها من حوارها مع الوعي.لكن كيف نفحص التجربة الواعية دون أن تُشوّشها افتراضاتنا المسبقة؟ هنا يأتي مفهوم الأبوخيّة، أو التعليق المؤقّت لليقينيات. فيقترح هوسرل أن نُوقف حُكمنا على العالم كي نراه ببراءة طفل، وهذا التعليق ليس إنكارًا للواقع، بل محاولة لالتقاط الجوهر الخالص للتجربة.فقد نكون ذلك الأبوخي حين نتوقّف عن تصنيف الأشخاص إلى أصدقاء أو أعداء، وننظر إليهم كظواهر فريدة ذات قصص مجهولة. هكذا تُصبح الظاهراتية تمرينًا على التواضع المعرفي؛ حيث نعترف بأنّ العالم أغنى من التفسيرات المُعلّبة.إنّ أكثر مفاهيم هوسرل إثارة هو عالم الحياة، ذلك النسيج اليومي من التجارب التي نعيشها قبل أن نُخضعها للتحليل العلمي أو الفلسفي. إنه عالم اللقاءات العابرة، والأحاديث غير المُكتملة، والروائح التي توقظ الذكريات. وهنا يتوخّى هوسرل خطر اختزال الحياة في معادلات علمية أو بيانات رقمية، لأن العلم -رغم فائدته- إلا أنه يحيد بنا عن عالم الحياة ويجعلنا ننسى أننا كائنات تعيش قبل أن تَفهم. لذا ينتقد هوسرل العقلانيةَ الحديثة التي حوّلت العالم إلى مُعادلات رياضية مُهمِلةً العالم الذي نختبرُه، فقبل أن تكون التفاحة جُزيئات كيميائية، فقد كانت رائحةً ونكهة وذكرى..وحين يبدو هوسرل حالمًا باستعادة الدهشة الأولى، فإنّ توخيه يكتسب راهنيّةً مُروّعة.. فهل نستبدل دفء اللقاءات البشرية ببرود الشاشات الإلكترونية؟ وهل نصبح مستهلكين للصور عوضًا عن المشاركة في تشكيل معناها؟إنّ فلسفته ليست إلا دعوة وجوديّة لإعادة ذرء السحر الكامن في ما هو عادي. فحين نعيش بتأمل نكتشف أنّ المطر لا يُبلل الشوارع فحسب، بل يغسل إحساسنا بالغربة. لذا فالتحدّي الذي نواجهه اليوم يكمن في كيفيّة المحافظة على هذه الهبة الظاهراتية في عالم يسرق انتباهنا. وربما تكون الإجابة في ممارسة اليقظة الواعية (Mindfulness) التي تجعلنا نعيش اللحظة بكل قصديّة، أو في الفن الذي يُحوّل التفاصيل الصغيرة إلى نوافذ على المطلق.ومع ذلك فإنّ هوسرل لا يُقدّم إجابات، بل يُعلّمنا أن نسأل بطريقة جديدة. فربما لا يكمنُ سرُّ الوجودِ في البحث عن ال «ما وراء»، بل في الانغماسِ الكُلّي في «ما هُنا الآن». وما يجعل منّا كائنات قادرة على القول: «أنا مَن عاش هذه اللحظة».أخيرًا .. فإنّ هوسرل لم يحلّ ألغاز الوجود، لكنّه أعادنا إلى أنفسنا. فليست الظاهراتية فلسفةً تتشبّث بالوعي بقدر ما هي فنٌ للعيش في معنى الحياة.وعندما يقول هوسرل: «كلّ وعي هو وعي بشيء ما». فلربما كان هذا «الشيء» هو الحياة ذاتها التي تنتظر منّا أن ننظر إليها من جديد. انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.